الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة! وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: {ويل يومئذ للمكذبين} ! ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد. وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة «الرحمن» عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: {فبأي آلاء ربكما تكذبان؟} كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة «القمر» عقب كل حلقة من حلقات العذاب: {فكيف كان عذابي ونذر؟} وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعماً مميزاً.. حاداً.. وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحياناً إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة. ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: {والمرسلات عرفاً. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشراً فالفارقات فرقاً. فالملقيات ذكراً، عذراً أو نذراً}.. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام. وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطاراً من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في «سورة الضحى» وإطاراً من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة «والعاديات».. وغيرها كثير. وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جداً من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى! والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: {فإذا النجوم طمست. وإذا السمآء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقّتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين!}. والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: {ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!}. والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: {ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتاً، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: {ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: {هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: {إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: {وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: {فبأي حديث بعده يؤمنون؟}.. وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن والمكية منها بوجه خاص ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالة جديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة. وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع! والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل: {والمرسلات عرفاً. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشراً. فالفارقات فرقاً. فالملقيات ذكراً: عذرا أو نذراً.. إنما توعدون لواقع}.. القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى المؤكدات في مواضع منه شتى. وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعاً. فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية. وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعاً.. ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول. والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع. وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب، وقواه المكنونة، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر. وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها. فقال بعضهم: هي الرياح إطلاقاً. وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقاً. وقال بعضهم: إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة.. مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها. وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله. وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر. {والمرسلات عرفاً}.. عن أبي هريرة أنها الملائكة. وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات، والسدي والربيع بن أنس، وأبي صالح في رواية (والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أَرسالاً متوالية، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها). وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات.. إنها الملائكة. وروي عن ابن مسعود.. المرسلات عرفاً. قال: الريح. (والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها) وكذا قال في العاصفات عصفاً والناشرات نشراً. وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية. وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفاً هل هي الملائكة أو الرياح. وقطع بأن العاصفات هي الرياح. وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء. وعن ابن مسعود: {فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً، عذراً أو نذراً} يعني الملائكة. وكذا قال: ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف. فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل. وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق وإنذار. ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذرواً. وفي النازعات غرقاً.. وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها. وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا. وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام. وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها، والظلال المباشرة التي تلقيها. وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها.. وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزاً، وهو يستجوبه عن ذنب، أو عن آية ظاهرة ينكرها، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد: {ويل يومئذ للمكذبين}.. بعد ذلك تجيء الهزة العنيفة بمشاهد الكون المتقلبة في يوم الفصل الذي هو الموعد المضروب للرسل لعرض حصيلة الرسالة في البشرية جميعاً: {فإذا النجوم طمست، وإذا السمآء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقّتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين}.. يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشق، وتنسف الجبال فهي هباء.. وقد وردت مشاهد هذا الانقلاب الكوني في سور شتى من القرآن. وكلها توحي بانفراط عقد هذا الكون المنظور، انفراطاً مصحوباً بقرقعة ودوي وانفجارات هائلة، لا عهد للناس بها فيما يرونه من الأحداث الصغيرة التي يستهولونها ويروعون بها من أمثال الزلازل والبراكين والصواعق.. وما إليها.. فهذه أشبه شيء حين تقاس بأهوال يوم الفصل بلعب الأطفال التي يفرقعونها في الأعياد، حين تقاس إلى القنابل الذرية والهيدروجينية! وليس هذا سوى مثل للتقريب. وإلا فالهول الذي ينشأ من تفجر هذا الكون وتناثره على هذا النحو أكبر من التصور البشري على الإطلاق! وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمراً عظيماً آخر مؤجلاً إلى هذا اليوم.. فهو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة. دعوة الله في الأرض طوال الأجيال.. فالرسل قد أقتت لهذا اليوم وضرب لها الموعد هناك، لتقديم الحساب الختامي عن ذلك الأمر العظيم الذي يرجح السماوات والأرض والجبال. للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية، والقضاء بحكم الله فيها، وإعلان الكلمة الأخيرة التي تنتهي إليها الأجيال والقرون.. وفي التعبير تهويل لهذا الأمر العظيم، يوحي بضخامة حقيقته حتى لتتجاوز مدى الإدراك: {وإذا الرسل أقّتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟}.. وظاهر من أسلوب التعبير أنه يتحدث عن أمر هائل جليل. فإذا وصل هذا الإيقاع إلى الحس بروعته وهوله، الذي يرجح هول النجوم المطموسة والسماء المشقوقة والجبال المنسوفة. ألقى بالإيقاع الرعيب، والإنذار المخيف: {ويل يومئذ للمكذبين!}.. وهذا الإنذار من العزيز الجبار، في مواجهة الهول السائد في الكون، والجلال الماثل في مجلس الفصل بمحضر الرسل. وهم يقدمون الحساب الأخير في الموعد المضروب لهم.. هذا الإنذار في هذا الأوان له طعمه وله وزنه وله وقعه المزلزل الرهيب.. ويعود بهم من هذه الجولة في أهوال يوم الفصل، إلى جولة في مصارع الغابرين: الأولين والآخرين.. {ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!}. هكذا في ضربة واحدة تتكشف مصارع الأولين وهم حشود. وفي ضربة واحدة تتكشف مصارع الآخرين وهم حشود. وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء. وأمامها ينطلق الوعيد ناطقاً بسنة الله في الوجود: {كذلك نفعل بالمجرمين} ! فهي السنة الماضية التي لا تحيد.. وبينما المجرمون يتوقعون مصرعاً كمصارع الأولين والآخرين، يجيء الدعاء بالهلاك، ويجيء الوعيد بالثبور: {ويل يومئذ للمكذبين}.. ومن الجولة في المصارع والأشلاء، إلى جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، للصغير وللكبير: {ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين}.. وهي رحلة مع النشأة الجنينية طويلة عجيبة، يجملها هنا في لمسات معدودة. ماء مهين. يودع في قرار الرحم المكين. إلى قدر معلوم وأجل مرسوم. وأمام التقدير الواضح في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة يجيء التعقيب الموحي بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل: {فقدرنا فنعم القادرون} وأمام التقدير الذي لا يفلت منه شيء يجيء الوعيد المعهود: {ويل يومئذ للمكذبين}.. ثم جولة في هذه الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة: {ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً؟ وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين}.. ألم نجعل الأرض كفاتا تحتضن بنيها أحياء وأمواتاً. {وجعلنا فيها رواسي شامخات} ثابتات سامقات، تتجمع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب. أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ أفبعد هذا يكذب المكذبون؟: {ويل يومئذ للمكذبين!}.. وعندئذ بعد عرض تلك المشاهد، وامتلاء الحس بالتأثرات التي تسكبها في المشاعر ينتقل السياق فجأة إلى موقف الحساب والجزاء. فنسمع الأمر الرهيب للمجرمين المكذبين، ليأخذوا طريقهم إلى العذاب الذي كانوا به يكذبون، في تأنيب مرير وإيلام عسير: {انطقلوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب. لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!}.. اذهبوا طلقاء بعد الارتهان والاحتباس في يوم الفصل الطويل. ولكن إلى أين؟ إنه انطلاق خير منه الارتهان.. {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون}.. فها هو ذا أمامكم حاضر مشهود. {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب}.. إنه ظل لدخان جهنم تمتد ألسنته في ثلاث شعب. ولكنه ظل خير منه الوهج: {لا ظليل ولا يغني من اللهب}.. إنه ظل خانق حار لافح. وتسميته بالظل ليست إلا امتداداً للتهكم، وتمنية بالظل تتكشف عن حر جهنم! انطلقوا. وإنكم لتعرفون إلى أين! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها. فلا حاجة إلى ذكر اسمها.. {إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جماله صفر}.. فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر. (وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور) فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر؟! وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: {ويل يومئذ للمكذبين!}. ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم، بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم.. {هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون}.. فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب، والكبت الرعيب، والخشوع المهيب، الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار. فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار: {ويل يومئذ للمكذبين} !.. وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم.. واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامته الرهيبة، لمناسبة في الموقف وظل في السياق. {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار. وقد جمعناكم والأولين أجمعين. فإن كان لكم تدبير فدبروه، وإن كان لكم قدرة على شيء فافعلوه! ولا تدبير ولا قدرة. إنما هو الصمت الكظيم، على التأنيب الأليم.. {ويل يومئذ للمكذبين!}.. فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين، اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين: {إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!}.. إن المتقين في ظلال.. ظلال حقيقية في هذه المرة! لا ظل ذي ثلاث لا ظليل ولا يغني من اللهب! وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور: {وفواكه مما يشتهون}.. وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين} ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم {ويل يومئذ للمكذبين!}.. يقابل هذا النعيم والتكريم! وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق. فإذا نحن في الأرض مرة أخرى. وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين! {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين، وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان، وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان. فبينما كان الخطاب موجهاً للمتقين في الآخرة، إذا هو موجه للمجرمين في الدنيا. وكأنما ليقال لهم: اشهدوا الفارق بين الموقفين.. وكلوا وتمتعوا قليلاً في هذه الدار، لتحرموا وتعذبوا طويلاً في تلك الدار.. {ويل يومئذ للمكذبين!}. ثم يتحدث معجباً من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!}.. مع أنهم يبصرون هذا التبصير، وينذرون هذا النذير.. {فبأي حديث بعده يؤمنون؟}.. والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبداً. إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس! إن السورة بذاتها، ببنائها التعبيري، وإيقاعها الموسيقي، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد.. إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب، ولا يتماسك لها كيان. فسبحان الذي نزل القرآن، وأودعه هذا السلطان!
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} هذا الجزء كله ومنه هذه السورة ذو طابع غالب.. سورة مكية فيما عدا سورتي «البينة» و«النصر» وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحده على وجه التقريب في موضعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها، وأسلوبها العام. إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بِنوّم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخُمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. إن هنالك إلهاً. وإن هنالك تدبيراً. وإن هنالك تقديراً. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حساباً. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذاباً شديداً. ونعيماً كبيراً.. اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. وهكذا مرة أخرى. وثالثة ورابعة. وخامسة.. وعاشرة.. ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً.. وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزاً عنيفاً؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب.. وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا: في إصرار وعناد: لا.. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء.. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد. هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد، عظيمة القدر، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد! وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ: {فلينظر الإنسان إلى طعامه...} {فلينظر الإنسان مم خلق؟...} {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السمآء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟} وهو يقرأ: {أأنتم أشد خلقاً أم السمآء بناها؟ رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها مآءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعاً لكم ولأنعامكم} {ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآءً ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتا وجنات ألفافاً؟}... {فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا المآء صباً. ثم شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً، وحدآئق غلبا، وفاكهة وأبَّا. متاعاً لكم ولأنعامكم} وهو يقرأ {يا أيها الإنسان. ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شآء ركبك؟} وهو يقرأ: {إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت، وإذا السمآء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس مآ أحضرت} {إذا السمآء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخرت} {إذا السمآء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت...} {إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها.. يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} هو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} {فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق} {والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} {والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها} {والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى} {والضحى. والليل إذا سجى} الخ.. الخ.. وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها.. واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير.. وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم: هذه السورة سورة النبأ كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة «النازعات» وسورة «عبس» تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة.. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة: {يوم يفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة} وسورة «التكوير» وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول. وسورة «الانفطار» كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم... الخ} وسورة «الانشقاق» وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب.. وسورة «البروج» وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى.. وسورة «الطارق».. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع: {إنه لقول فصل، وما هو بالهزل} وسورة «الأعلى» وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء.. وسورة «الغاشية».. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال.. وهكذا.. وهكذا.. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس.. وهي سور قليلة على كل حال.. وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: {فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق} أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: {والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} {والضحى. والليل إذا سجى} وفي خطابه الموحي للقلب البشري: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك..} وفي وصف الجنة: {وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية..} ووصف النار: {وأما من خفت موازينه فأمه هاوية. وما أدراك ماهيه؟ نار حامية!} والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس. والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب.. وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير. وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: {عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون!} ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: {ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً؟}. ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السمآء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}.. ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: {إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيهآ أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً. إلا حميماً وغساقاً. جزآء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً، وكل شيء أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.. ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً: {إن للمتقين مفازاً: حدائق وأعناباً، وكواعب أتراباً. وكأساً دهاقاً، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً. جزاء من ربك عطاء حساباً}. وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً. يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً. ذلك اليوم الحق. فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً. إنآ أنذرناكم عذابا قريباً. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.. ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم! {عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون}.. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون! {عم يتساءلون؟}.. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب. فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم. إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته: {عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون}.. ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه، إنما ذكره بوصفه.. النبأ العظيم.. استطراداً في أسلوب التعجيب والتضخيم.. وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه. أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم. ثم لا يجيب عن التساؤل، ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه. فيتركه بوصفه.. العظيم.. وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر، وأعمق في التخويف: {كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون}.. ولفظ كلا، يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه. وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه. ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون. ليلتقي به بعد قليل. يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان: {ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً؟}.. وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات، مما يجعل إيقاعها في الحس حاداً ثقيلاً نفاذاً، كأنه المطارق المتوالية، بلا فتور ولا انقطاع! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين وهي في اللغة تفيد التقرير صيغة مقصودة هنا، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير، والقدرة على الإنشاء والإعادة، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء.. ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون! واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال: {ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً؟}.. والمهاد: الممهد للسير.. والمهاد اللين كالمهد.. وكلاهما متقارب. وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته. فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية. وكون الجبال أوتاداً ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي؛ وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس. غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد. وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره، كبرت هذه الحقيقة في نفسه؛ وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم؛ وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها؛ وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها. وجعل الأرض مهاداً للحياة وللحياة الإنسانية بوجه خاص شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر. فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها. أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض.. الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهاداً؛ ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه.. وجعل الجبال أوتاداً.. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها.. وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال.. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية.. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد.. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم. ثم عرف البشر طرفاً منها مئات السنين: واللمسة الثانية في ذوات النفوس، في نواحي وحقائق شتى: {وخلقناكم أزواجاً}.. وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة.. فقد خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما. وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير. ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير. ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها، تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضاً.. هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكراً، وتجعل من نطفة أنثى، بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك، يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكراً، وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى.. اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي، وتوجيهها اللطيف، وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك، لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى! {وجعلنا نومكم سباتاً. وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً}.. وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتاً يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة.. وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه. فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم. وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الوحي وأودعه ذلك السر؛ وجعل حياته متوقفة عليه. فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة. فإذا أجبر إجباراً بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظاً فإنه يهلك قطعاً. وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب.. إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته طائعاً أو غير طائع ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب. ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع. وكأنما هذا النعاس أحياناً لا يزيد على لحظات انقلاب تام في كيان هذا الفرد. وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد.. ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها. وهو يقول: {إذ يغشِّيكم النعاس أمنة منه} {ثم أنز ل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طآئفة منكم} كما وقعت للكثير في حالات مشابهة! فهذا السبات: أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه. وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر. وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء. وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء. وظاهرة النهار ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط.. بهذا تَوافقَ خلق الله وتناسق. وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء. تلبي ما ركب فيهم من خصائص. وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات. وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقاً أدق اتساق! واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً. وجعلنا سراجاً وهاجاً. وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً. لنخرج به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً}.. والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع، وهي الطرائق السبع في موضع آخر.. والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله.. فقد تكون سبع مجموعات من المجرات وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية. . وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون، الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل. إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين، قوية البناء، مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء. وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان.. كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان. ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان. يدل على هذا ما بعده: {وجعلنا سراجاً وهاجاً}.. وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء. والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً}.. حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء. ومن يعصرها؟ قد تكون هي الرياح. وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو. ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات! وفي السراج توقد وحرارة وضوء.. وهو ما يتوافر في الشمس. فاختيار كلمة «سراج» دقيق كل الدقة ومختار.. ومن السراج الوهاج وما يسكبه من أشعة فيها ضوء وحرارة، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة، وهو الثجاج، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان. وهذا التناسق في تصميم الكون، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه، وحكمة تقدره، وإرادة تدبره. يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب. وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولاً تافهاً لا يستحق المناقشة. كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام! إن لهذا الكون خالقاً، وإن وراء هذا الكون تدبيراً وتقديراً وتنسيقاً. وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو: من جعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً. وخلق الناس أزواجاً. وجعل نومهم سباتاً (بعد الحركة والوعي والنشاط) مع جعل الليل لباساً للستر والانزواء، وجعل النهار معاشاً للوعي والنشاط. ثم بناء السبع الشداد. وجعل السراج الوهاج. وإنزال الماء الثجاج من المعصرات. لإنبات الحب والنبات والجنات.. توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق، ويشي بالتدبير والتقدير، ويشعر بالخالق الحكيم القدير. ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية.. ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون! ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع. ووراء هذا كله حساب وجزاء. ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}.. إن الناس لم يخلقوا عبثاً، ولن يتركوا سدى. والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً. ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً! إن هناك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان. وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً}.. وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام. {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً، وسيرت الجبال فكانت سراباً}.. والصور: البوق. ونحن لا ندري عنه إلا اسمه. ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه. وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك. فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثراً بالحادث. وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً.. نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود.. نتصور مشهد هذه الخلائق جميعاً.. أفواجاً.. مبعوثين قائمين آتين من كل فوج إلى حيث يحشرون. ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة. ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم.. أين؟ لا ندري.. ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام: {وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}.. السماء المبنية المتينة.. فتحت فكانت أبواباً.. فهي منشقة. منفرجة. كما جاء في مواضع وسور أخرى. على هيئة لا عهد لنا بها. والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً. فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء، يحركه الهواء كما جاء في مواضع وسور أخرى. ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة. أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب! إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور. وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير.. ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة. بادئاً بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم: {إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيهآ أحقاباً. لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً. جزآء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً. وكل شيء أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.. إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصاداً للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم، مهيأة لاستقبالهم. وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقاباً بعد أحقاب: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً}.. ثم يستثني.. فإذا الاستثناء أمرّ وأدهى: {إلا حميماً وغساقاً}.. إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون. فهذا هو البرد! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل. فهذا هو الشراب! {جزاء وفاقاً}.. يوافق ما أسلفوا وما قدموا.. {إنهم كانوا لا يرجون حساباً}.. ولا يتوقعون مآباً.. {وكذبوا بآياتنا كذاباً}.. وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه. بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقاً لا يفلت منه حرف: {وكل شيء أحصيناه كتاباً}.. هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.. ثم يعرض المشهد المقابل: مشهد التقاة في النعيم. بعد مشهد الطغاة في الحميم: {إن للمتقين مفازاً. حدآئق وأعناباً. وكواعب أتراباً. وكأساً دهاقاً. لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً.. جزآء من ربك عطآء حساباً}.. فإذا كانت جهنم هناك مرصداً ومآباً للطاغين، لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها، فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة، تتمثل {حدائق وأعناباً} ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون.. {وكواعب} وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن {أتراباً} متوافيات السن والجمال. {وكأساً دهاقاً} مترعة بالشراب. وهي مناعم ظاهرها حسي، لتقريبها للتصور البشري. أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها.. وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور: {لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً}.. فهي حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل؛ فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب؛ كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه.. وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود.. {جزاء من ربك عطاء حساباً}.. ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين {جزاء} و{عطاء}.. كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب.. وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالاً. وتكملة لمشاهد اليوم الذي يتم فيه ذلك كله، والذي يتساءل عنه المتسائلون، ويختلف فيه المختلفون. يجيء المشهد الختامي في السورة، حيث يقف جبريل «عليه السلام» والملائكة صفاً بين يدي الرحمن خاشعين. لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الموقف المهيب الجليل: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً}.. ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق: جزاء الطغاة وجزاء التقاة. هذا الجزاء {من ربك}.. {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن}.. فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان. كما تشمل السماوات والأرض، وتشمل الدنيا والآخرة، وتجازي على الطغيان والتقوى، وتنتهي إليها الآخرة والأولى.. ثم هو {الرحمن}.. ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء. حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن. ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره! ومع الرحمة والجلال: {لا يملكون منه خطاباً}.. في ذلك اليوم المهيب الرهيب: يوم يقف جبريل عليه السلام والملائكة الآخرون {صفاً لا يتكلمون}.. إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صواباً. فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب. وموقف هؤلاء المقربين إلى الله، الأبرياء من الذنب والمعصية. موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب.. يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار. وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار، وهزة للنائمين السادرين في الخمار: {ذلك اليوم الحق. فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً. إنآ أنذرناكم عذاباً قريباً: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً}.. إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب: {ذلك اليوم الحق}.. فلا مجال للتساؤل والاختلاف.. والفرصة ما تزال سانحة! {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً}.. قبل أن تكون جهنم مرصاداً ومآباً! وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً}.. ليس بالبعيد، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم. على النحو الذي رأيتم. والدنيا كلها رحلة قصيرة، وعمر قريب! وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً}.. وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب! وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم. ويصير إلى عنصر مهمل زهيد. ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد.. وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين. في ذلك النبأ العظيم!!!
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة، بهولها وضخامتها، وجديتها، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها؛ ثم في الدار الآخرة، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها. وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى. وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة. فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية.. يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئاً من الحدس والرهبة والتوجس. يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار: {والنازعات غرقاً. والناشطات نشطاً. والسابحات سبحاً. فالسابقات سبقاً. فالمدبرات أمراً}.. وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم. ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون: أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاما نخرة؟ قالوا: تلك إذا كرة خاسرة! فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة}.. ومن هنالك.. من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور.. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما، ليناسب جو الحكاية والعرض: {هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى: اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل: هل لك إلى أن تزكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال: أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.. وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى. ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح، ومشاهد الكون الهائلة، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون، المهيمنة على مصائره، في الدنيا والآخرة. فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر، قوية الإيقاع، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام: {أأنتم أشد خلقاً أم السمآء؟ بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعاً لكم ولأنعامكم}.. وهنا بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية يجيء مشهد الطامة الكبرى، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا. جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى: {فإذا جآءت الطآمة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبُرِّزت الجحيم لمن يرى! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}.. وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى، والجحيم المبرزة لمن يرى، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.. في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة، الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها. يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ. إنمآ أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.. والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل! {والنازعات غرقاً. والناشطات نشطاً. والسابحات سبحاً. فالسابقات سبقاً. فالمدبرات أمراً}. قيل في تفسير هذه الكلمات: إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعاً شديداً. ناشطات منطلقات في حركاتها. سابحات في العوالم العليا سابقات للإيمان أو للطاعة لأمر ربها مدبرات ما يوكل من الأمور إليها.. وقيل: إنها النجوم تنزع في مداراتها وتتحرك وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل. وتسبح سبحاً في فضاء الله وهي معلقة به. وتسبق سبقاً في جريانها ودورانها. وتدبر من النتائج والظواهر ما وكله الله إليها مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها. وقيل: النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم. والمدبرات هي الملائكة. وقيل: النازعات والناشطات والسابحات هي النجوم. والسابقات والمدبرات هي الملائكة.. وأياً ما كانت مدلولاتها فنحن نحس من الحياة في الجو القرآني أن إيرادها على هذا النحو، ينشئ أولاً وقبل كل شيء هزة في الحس، وتوجساً في الشعور، وتوفزاً وتوقعاً لشيء يهول ويروع. ومن ثم فهي تشارك في المطلع مشاركة قوية في إعداد الحس لتلقي ما يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى في النهاية! وتمشياً مع هذا الإحساس نؤثر أن ندعها هكذا بدون زيادة في تفصيل مدلولاتها ومناقشتها؛ لنعيش في ظلال القرآن بموحياته وإيحاءاته على طبيعتها. فهزة القلب وإيقاظه هدف في ذاته، يتحراه الخطاب القرآني بوسائل شتى.. ثم إن لنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة. وقد قرأ سورة: {عبس وتولى} حتى جاء إلى قوله تعالى: {وفاكهة وأبَّا} فقال: «فقد عرفنا الفاكهة. فما الأبّ؟ ثم استدرك قائلاً: لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف! وما عليك ألا تعرف لفظاً في كتاب الله؟!»... وفي رواية أنه قال: كل هذا قد عرفنا فما الأبَّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها غضباً على نفسه وقال: «هذا لعمر الله التكلف! وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الاب». ثم قال: «اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه».. فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة. أدب العبد أمام كلمات الرب. التي قد يكون بقاؤها مغلفة هدفاً في ذاته، يؤدي غرضاً بذاته. هذا المطلع جاء في صيغة القسم، على أمر تصوره الآيات التالية في السورة: {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة. قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون: أإنا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟ قالوا: تلك إذا كرة خاسرة!.. فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة}.. والراجفة ورد أنها الأرض استناداً إلى قوله تعالى في سورة أخرى: {يوم ترجف الأرض والجبال} والرادفة: ورد أنها السماء أي أنها تردف الأرض وتتبعها في الانقلاب حيث تنشق وتتناثر كواكبها.. كذلك ورد أن الراجفة هي الصيحة الأولى، التي ترجف لها الأرض والجبال والأحياء جميعاً، ويصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. والرادفة هي النفخة الثانية التي يصحون عليها ويحشرون (كما جاء في سورة الزمر آية 68).. وسواء كانت هذه أم تلك. فقد أحس القلب البشري بالزلزلة والرجفة والهول والاضطراب؛ واهتز هزة الخوف والوجل والرعب والارتعاش. وتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يومئذ من الفزع الذي لا ثبات معه ولا قرار. وأدرك وأحس حقيقة قوله: {قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة}.. فهي شديدة الاضطراب، بادية الذل، يجتمع عليها الخوف والانكسار، والرجفة، والانهيار. وهذا هو الذي يقع يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة؛ وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات غرقاً والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، والسابقات سبقاً، فالمدبرات أمراً. وهو مشهد يتفق في ظله وإيقاعه مع ذلك المطلع. ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول: {يقولون: أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟}.. فهم يتساءلون: أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى.. يقال: رجع في حافرته: أي في طريقه التي جاء منها. فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون: إن كانوا راجعين في طريقهم إلى حياتهم؟ ويدهشون: كيف يكون هذا بعد إذ كانوا عظاماً نخرة. منخوبة يصوت فيها الهواء؟! ولعلهم يفيقون، أو يُبصرون، فيعلمون أنها كرة إلى الحياة، ولكنها الحياة الأخرى، فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة، فتند منهم تلك الكلمة: {قالوا: تلك إذن كرة خاسرة} ! كرة لم يحسبوا حسابها، ولم يقدموا لها زادها، وليس لهم فيها إلا الخسران الخالص! هنا في مواجهة هذا المشهد يعقب السياق القرآني بحقيقة ما هو كائن: {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة}.. والزجرة: هي الصيحة. ولكنها تقال هنا بهذا اللفظ العنيف تنسيقاً لجو المشهد مع مشاهد السورة جميعاً. والساهرة هي الأرض البيضاء اللامعة. وهي أرض المحشر، التي لا ندري نحن أين تكون. والخبر عنها لا نعرفه إلا من الخبرالصادق نتلقاه، فلا نزيد عليه شيئاً غير موثوق به ولا مضمون! وهذه الزجرة الواحدة يغلب بالاستناد إلى النصوص الأخرى أنها النفخة الثانية. نفخة البعث والحشر. والتعبير عنها فيه سرعة. وهي ذاتها توحي بالسرعة. وإيقاع السورة كلها فيه هذا اللون من الإسراع والإيجاف. والقلوب الواجفة تأخذ صفتها هذه من سرعة النبض، فالتناسق ملحوظ في كل حركة وفي كل لمحة، وفي كل ظل في السياق! ثم يهدأ الإيقاع شيئاً ما، في الجولة القادمة، ليناسب جو القصص، وهو يعرض ما كان بين موسى وفرعون، وما انتهى إليه هذا الطاغية عندما طغى: {هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى. اذهب إلى فرعون إنه طغى.؟ فقل: هل لك إلى أن تَزَكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى. فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال: أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.. وقصة موسى هي أكثر القصص وروداً وأكثرها تفصيلاً في القرآن.. وقد وردت من قبل في سور كثيرة. وردت منها حلقات منوعة. ووردت في أساليب شتى. كل منها تناسب سياق السورة التي وردت فيها؛ وتشارك في أداء الغرض البارز في السياق. على طريقة القرآن في إيراد القصص وسرده. وهنا ترد هذه القصة مختصرة سريعة المشاهد منذ أن نودي موسى بالوادي المقدس، إلى أخذ فرعون.. أخذه في الدنيا ثم في الآخرة.. فتلتقي بموضوع السورة الأصيل، وهو حقيقة الآخرة. وهذا المدى الطويل من القصة يرد هنا في آيات معدودات قصار سريعة، ليناسب طبيعة السورة وإيقاعها. وتتضمن هذه الآيات القصار السريعة عدة حلقات ومشاهد من القصة.. وهي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {هل أتاك حديث موسى؟}.. وهو استفهام للتمهيد وإعداد النفس والأذن لتلقي القصة وتمليها.. ثم تأخذ في عرض الحديث كما تسمى القصة. وهو إيحاء بواقعيتها فهي حديث جرى. فتبدأ بمشهد المناداة والمناجاة: {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى}.. وطوى اسم الوادي على الأرجح. وهو بجانب الطور الأيمن بالنسبة للقادم من مدين في شمال الحجاز. ولحظة النداء لحظة رهيبة جليلة. وهي لحظة كذلك عجيبة. ونداء الله بذاته سبحانه لعبد من عباده أمر هائل. أهول مما تملك الألفاظ البشرية أن تعبر. وهي سر من أسرار الألوهية العظيمة، كما هي سر من أسرار التكوين الإنساني التي أودعها الله هذا الكائن، وهيأه بها لتلقي ذلك النداء. وهذا أقصى ما نملك أن نقوله في هذا المقام، الذي لا يملك الإدراك البشري أن يحيط منه بشيء؛ فيقف على إطاره، حتى يكشف الله له عنه فيتذوقه بشعوره. وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف. فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة. ومن ثم يبادر السياق بحكاية أمر التكليف الإلهي لموسى، عقب ذكر النداء بالوادي المقدس طوى: {اذهب إلى فرعون. إنه طغى. فقل: هل لك إلى أن تزكَّى! وأهديك إلى ربك فتخشى؟}.. {اذهب إلى فرعون. إنه طغى}.. والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى. إنه أمر كريه، مفسد للأرض، مخالف لما يحبه الله، مؤد إلى ما يكره.. فمن أجل منعه ينتدب الله عبداً من عباده المختارين. ينتدبه بنفسه سبحانه. ليحاول وقف هذا الشر، ومنع هذا الفساد، ووقف هذا الطغيان.. إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبداً من عباده ليذهب إلى الطاغية، فيحاول رده عما هو فيه، والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى! {إذهب إلى فرعون. إنه طغى}.. ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب، لعله ينتهي، ويتقي غضب الله وأخذه: {فقل: هل لك إلى أن تزكى؟}.. هل لك إلى أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان؟ هل لك إلى طريق الصلاة والبركة؟ {وأهديك إلى ربك فتخشى}.. هل لك أن أعرفك طريق ربك؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته؟ فما يطغى الإنسان ويعصي إلا حين يذهب عن ربه بعيداً، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد، فيكون منه الطغيان والتمرد! كان هذا في مشهد النداء والتكليف. وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ. والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ. اكتفاء بعرضه هناك وذكره. فيطوي ما كان بعد مشهد النداء، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ. ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة: {فأراه الآية الكبرى. فكذب وعصى}.. لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه. بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه. ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه. فأراه موسى الآية الكبرى. آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى: {فكذب وعصى}.. وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال! ثم يعرض مشهداً آخر. مشهد فرعون يتولى عن موسى، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق. حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى: {ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال: أنا ربكم الأعلى}.. ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة، مجملاً مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها. فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة، فحشر السحرة والجماهير؛ ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة، المليئة بالغرور والجهالة: {أنا ربكم الأعلى}.. قالها الطاغية مخدوعاً بغفلة جماهيره، وإذعانها وانقيادها. فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها. وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سطاناً. إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم. فالطاغية وهو فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها. وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً! فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: {أنا ربكم الأعلى}.. وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً! وأمام هذا التطاول الوقح، بعد الطغيان البشع، تحركت القوة الكبرى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى}.. ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى.. لأنه أشد وأبقى. فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده.. ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي.. ولأنه يتسق لفظياً مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنوياً مع الموضوع الرئيسي، ومع الحقيقة الأصيلة. ونكال الأولى كان عنيفاً قاسياً. فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق؛ فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟ {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.. فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه. أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب. حتى يصطدم بالعاقبة اصطداماً. وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى. وكل ميسر لنهج، وكل ميسر لعاقبة. والعبرة لمن يخشى.. ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم، يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك. فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى، في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئاً: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعاً لكم ولأنعامكم}.. وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟}.. السماء! بلا جدال ولا كلام! فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقاً منكم، والذي خلقها أشد منها؟ هذا جانب من إيحاء السؤال. وهناك جانب آخر. فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم؛ وبعثكم هو إعادة لخلقكم، والذي بنى السماء وهي أشد، قادر على إعادتكم وهي أيسر! هذه السماء الأشد خلقاً بلا مراء.. {بناها}.. والبناء يوحي بالقوة والتماسك، والسماء كذلك. متماسكة. لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها. ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها، ولا تتهاوى ولا تنهار. فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء. {رفع سمكها فسواها}.. وسمك كل شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعه في تناسق وتماسك. وهذه هي التسوية: {فسواها}.. والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق. والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها، توسع من معنى هذا التعبير، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافاً منها، وقفوا تجاهها مبهورين، تغمرهم الدهشة، وتأخذهم الروعة، ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبرة مقدرة، ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقاً! {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها}.. وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى، يناسب الحديث عن الشدة والقوة. وأغطش ليلها أي أظلمه. وأخرج ضحاها. أي: أضاءها. ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق.. وتوالي حالتي الظلام والضياء، في الليل والضحى الذي هو أول النهار، حقيقة يراها كل أحد؛ ويتأثر بها كل قلب. وقد ينساها بطول الألفة والتكرار، فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها. وهي جديدة أبداً. تتجدد كل يوم، ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها. فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها. فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها! {والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها}.. ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها، بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة. والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع، أو ما ينزل من السماء فهو أصلاً من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر. وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة.. وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى. والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع. وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات. والقرآن يعلن أن هذا كله كان: {متاعاً لكم ولأنعامكم}. . فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية. كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه. فإن بناء السماء على هذا النحو، ودحو الأرض على هذا النحو أيضاً لم يكونا فلتة ولا مصادفة. إنما كان محسوباً فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض. والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جداً في تصميم الكون. وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة. وفي تصميم الأرض بصفة أخص. والقرآن على طريقته في الإشارة المجملة الموحية المتضمنة لأصل الحقيقة يذكر هنا من هذه الموافقات بناء السماوات، وإغطاش الليل، وإخراج الضحى، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها، وإرساء جبالها. متاعاً للإنسان وأنعامه. وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع، الصالحة لأن يخاطب بها كل إنسان، في كل بيئة وفي كل زمان، فلا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة، تزيد على نصيب الإنسان حيث كان. حتى يعم الخطاب بالقرآن لجميع بني الإنسان في جميع أطوار الإنسان، في جميع الأزمان. ووراء هذا المستوى آماد وآفاق أخرى من هذه الحقيقة الكبرى. حقيقة التقدير والتدبير في تصميم هذا الكون الكبير. واستبعاد المصادفة والجزاف استبعاداً تنطق به طبيعة هذا الكون، وطبيعة المصادفة التي يستحيل معها تجمع كل تلك الموافقات العجيبة. هذه الموافقات التي تبدأ من كون المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية. وأن الأرض نمط فريد غير مكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية. الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية. ولا يعرف البشر حتى اليوم كوكباً آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية. وهي تعد بالآلاف! «ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم، وبعد معتدل، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة». «لا بد من الحجم الملائم، لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية.» «ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام، والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام». «ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة، لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء». «وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة، في الصورة التي نعرفها، ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن». وتقرير حقيقة التدبير والتقدير في تصميم هذا الكون الكبير، وحساب مكان للإنسان فيه ملحوظ في خلقه وتطويره أمر يعد القلب والعقل لتلقي حقيقة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء باطمئنان وتسليم. فما يمكن أن يكون هذا هو واقع النشأة الكونية والنشأة الإنسانية ثم لا تتم تمامها، ولا تلقى جزاءها. ولا يكون معقولاً أن ينتهي أمرها بنهاية الحياة القصيرة في هذه العاجلة الفانية. وأن يمضي الشر والطغيان والباطل ناجياً بما كان منه في هذه الأرض. وأن يمضي الخير والعدل والحق بما أصابه كذلك في هذه الأرض.. فهذا الفرض مخالف في طبيعته لطبيعة التقدير والتدبير الواضحة في تصميم الكون الكبير.. ومن ثم تلتقي هذه الحقيقة التي لمسها السياق في هذا المقطع بحقيقة الآخرة التي هي الموضوع الرئيسي في السورة. وتصلح تمهيداً لها في القلوب والعقول، يجيء بعده ذكر الطامة الكبرى في موضعه وفي حينه! {فإذا جآءت الطآمة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى. فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}.. إن الحياة الدنيا متاع. متاع مقدر بدقة وإحكام. وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان. ولكنه متاع. متاع ينتهي إلى أجله.. فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء، وطمت على كل شيء. على المتاع الموقوت. وعلى الكون المتين المقدر المنظم. على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع. فهي أكبر من هذا كله، وهي تطم وتعم على هذا كله! عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى. يتذكر سعيه ويستحضره، إن كانت أحداث الحياة، وشواغل المتاع أغفلته عنه وأنسته إياه. يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيده التذكر والاستحضار إلا الحسرة والأسى وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى! {وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى}.. فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر. ويشدد التعبير في اللفظ {بُرِّزَت} تشديداً للمعنى والجرس، ودفعاً بالمشهد إلى كل عين! عندئذ تختلف المصائر والعواقب؛ وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى: {فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى}.. والطغيان هنا أشمل من معناه القريب. فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى. ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت، حيث يشمل كل متجاوز للهدى، وكل من آثر الحياة الدنيا، واختارها على الآخرة. فعمل لها وحدها، غير حاسب للآخرة حساباً. واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره. فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته، وعد طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للمدى. فأما هذا.. {فإن الجحيم هي المأوى}.. الجحيم المكشوفة المبرزة القريبة الحاضرة. يوم الطامة الكبرى! {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى}.. والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة. فظل في دائرة الطاعة. ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية. وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى. فالجهل سهل علاجه. ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها. والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة. وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة. فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها! ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى. فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته. ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها. وأن يستعين في هذا بالخوف. الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب. وكتب له بهذا الجهاد الشاق، الجنة مثابة ومأوى: {فإن الجنة هي المأوى}.. ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى. إن الإنسان إنسان بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع. وليس إنساناً بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها، بحجة أن هذا مركب في طبيعته. فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه، ونهي النفس عنه، ورفعها عن جاذبيته؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى. وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان. تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني. وهنالك حرية حيوانية، هي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته، وانفلات الزمام من إرادته. وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفاً من الحرية! إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى. أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته، ويرتد شيئاً توقد به النار التي وقودها الناس من هذا الصنف والحجارة! وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء.. وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلاً عميقاً مديداً: {يسألونك عن الساعة: أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ. إنمآ أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}. وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء.. متى أو أيان موعدها.. أو كما يحكي عنهم هنا: {أيان مرساها؟}.. والجواب: {فيم أنت من ذكراها؟}.. وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها، بحيث يبدو هذا السؤال تافهاً باهتاً، وتطفلاً كذلك وتجاوزاً.. فها هو ذا يقال للرسول العظيم: {فيم أنت من ذكراها؟}.. إنها لأعظم من أن تَسأل أو تسأل عن موعدها. فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك: {إلى ربك منتهاها}.. فهو الذي ينتهي إليه أمرها، وهو الذي يعلم موعدها، وهو الذي يتولى كل شيء فيها. {إنما أنت منذر من يخشاها}.. هذه وظيفتك، وهذه حدودك.. أن تنذر بها من ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها، ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها سبحانه وتعالى. ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات؛ وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.. فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا، وأعمارها، وأحداثها، ومتاعها، وأشياؤها، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم.. عشية أو ضحاها! وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون. والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة. والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان. والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها.. تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها. هذه هي: قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة.. أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى! ألا إنها الحماقة الكبرى. الحماقة التي لا يرتكبها إنسان. يسمع ويرى!
|